"تمشين كفتاة سعودية"، كانت هذه العبارة التي قالها لي رجل إنجليزي وهو يمشي خلفي مع زوجته في أحد شوارع لندن. أوقفني الرجل وزوجته ل...
"تمشين كفتاة سعودية"، كانت هذه العبارة التي قالها لي رجل إنجليزي وهو يمشي خلفي مع زوجته في أحد شوارع لندن.
أوقفني الرجل وزوجته ليسألاني إن كنت فعلا سعودية، ومضى يشرح لي أنه كان في رهان مع زوجته أن الفتاة التي تمشي أمامهما سعودية. كان محقاً رغم أني لم أكن أرتدي الحجاب أو غيره من الثياب التي قد تدل على جنسيتي.
عمل ذاك الرجل البريطاني في دول خليجية عدة ومنها السعودية لفترة طويلة، وشرح لي أن الطريقة التي أمشي بها هي طريقة المرأة السعودية في المشي: خطوات قصيرة بطئية متقاربة مرتبكة، ومضى يروي لي كيف كان يلاحظ كيف تتحرك المرأة وتمشي في الأماكن العامة بطريقة مميزة يسهل التعرف عليها.
كان الموقف مضحكاً وشيقاً لكنني لم أتوقف عن التفكير في جسدي منذ تلك اللحظة وكيف كنت أمشي وكأن عباءتي التي لم أعد أرتديها لا تزال ملتصقة بي.
لم أعرف جسدي حتى تجاوزت الثلاثين ولا أعني هنا من الناحية الجنسية فقط، بل لم أعرف جسدي كجزء مني، كان دائما كيانا منفصلاً عني لا أستخدمه للتعبير، لا يعكس ما أفكر به، ولا أستطيع التحكم به.
منذ سن صغيرة في العاشرة تقريبا تبدأ طقوس ارتداء العباءة (أو العباية كما نسميها) وتغطية الرأس في المدارس الحكومية.
بحجمي الصغير وبجسدي الطفولي الذي كان يحاول أن يركض ويسابق الحياة، كان يجب أن أرتدي ما يغطي جسدي كاملاً: عباءة سوداء و غطاء وجه أسود.
هاجسي كطفلة كان لا يتجاوز تفكيري في مدى قدرتي على الجري أو المشي بسرعة عندما أسابق صديقاتي بعد الخروج من المدرسة؛ فحارس المدرسة كان يقف دائماً بعصا طويلة متوعداً تلك السيقان النحيلة بالضرب حينما تظهر، بسبب حركة العباءة، أمام الرجال المنتظرين خارجاً.
كبرت كفتاة سعودية وأنا أتعلم كيف أحمل العباءة على رأسي، كيف أحافظ على توازنها وثباتها كمن تحمل جرة ماء طوال الوقت؛ أحمل حقيبة كتبي ويدي الأخرى تحاول أن تغطي ما قد يظهر من جسدي أثناء تحركي. أمشي بخطوات صغيرة ضيقة وساقاي ملتصقتان كي لا تظهر قدماي.
لا أتذكر بشكل واضح كيف تعلمت تلك الحركة المرتبكة للحفاظ على بقاء العباءة على رأسي، ربما من الفتيات الأكبر سناً في المدرسة لكنني حتماً لم أر جدتي أو والدتي ترتديان العباءة (ارتدتها والدتي بعد أن تجاوزت الأربعين من العمر، فلم يعد بالإمكان الخروج والتجول في الأماكن العامة دون ارتدائها خصوصاً في أواخر الثمانينيات). ومنذ ذلك الحين أصبحت عباءتي هي جسدي.
وفي مرحلة لاحقة كان يجب أن نرتدي القفازات السوداء؛ العينان أيضا يجب ألا تظهرا، يمكن النظر ولكن فقط من خلف غطاء أسود شفاف.
حتماً كانت التجربة أكثر تشدداً في مناطق معينة (تلك الأقرب للتوجهات الدينية التي فرضت العباءة)، وأقل حدة في مدن أكثر انفتاحاً على ثقافات واتجاهات أخرى كجدة ومكة مثلا.
لكن العباءة بمختلف أشكالها، وثقلها، ولونها الأسود دائماً ظلت هي الرمز الوحيد والمقبول للشرف والعفة والستر وكل ماسواها "فتنة".
كان اختيار اللون الأسود مثيرا للانتباه في مدينة كجدة مثلاً حيث تتجاوز درجات الحرارة فيها الـ 50، و تغلفها أجواء الرطوبة العالية بشكل دائم.
لم الأسود؟ لماذا لم يختاروا اللون الأبيض الذي يرتديه الرجال؟ أو الأخضر؟ الأزرق؟ لماذا يتم إختيار لون ارتبط بالموت والحداد في ثقافتنا لنرتديه كل يوم في كل لحظة نخرج فيها إلى العالم الخارجي؟
التصق اللون الأسود وقماش العباءة بكل شي أخر في حياتي واختيارتي: لون الحقيبة، ونوع الحذاء، وكثير من التفاصيل التي ربما التصقت بذاكرة كل فتاة سعودية اعتادت على ارتداء العباءة في تلك الفترة. للأسف هذه التفاصيل تضم رائحة الغبار الملتصق بالعباءة عند العودة من الخارج، واللون الأسود من قماش رديء عندما يترك علامته على حقيبة اليد وربما على الأثاث الذي نجلس عليه. آثار الشمس الحارقة على اللون الأسود، الحيل البسيطة التي نتبادلها لتثبيت العباءة بشكل أفضل وأسهل، تلك المحاولات الممتعة للتمرد على ما نرتديه، عندما نتعمد رفع العباءة قليلاً لنرى ما ترتديه الأخرى تحتها، ومهارة التعرف على الأخريات من خلال العينين.
كانت تجربة مخيفة أن أعامل جسدي بهذه الطريقة في كل مرة أرغب فيها أن أخرج إلى هذا العالم، أن أغطيه بلون الموت، أن أخفي كل ما قد يدل على هويتي، أن أتحرك بطريقة آلية حتى لا تنتهي التجربة برجل من الهيئة ينهرني أو يسيء لي أو لرجال أسرتي.
وبالرغم من أنني كنت أسير في كل الأماكن العامة بلون أسود يغطي كل تفاصيل أنوثتي كان يجب أن أمشي بطريقة معينة أيضاً:
بحذر لأتجنب سقوط عباءتي، لا أنحني حتى لا تلتصق العباءة بتفاصيل جسدي، خطواتي بطئية ومثقلة بالحرص على ألا أتحرك بطريقة تختلف عن تلك الحركة الأوتوماتيكية التي نسير بها، كان يجب أن أتجنب أيضا اصطدامي برجل أو الاقتراب منه خوفاً من من ملامسة جسدي حتى من خلف تلك الأستار وكأنه مشحون بطاقة جنسية قابلة للانفجار في أية لحظة.
لم أفهم حينها ما الذي تعنيه عيناي لرجل، ما الخطر المترتب على ظهور يديّ أو طلاء أظافري الذي أغضب رجل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ما المخيف في قليل من الألوان أو النقوش السوداء على عباءة سوداء؟ لم كل هذا النقاش والجدل والهجوم على ما "يهدد" هذا الرداء الأسود؟ هل لأنها قد تثير انتباه رجل ما؟ أم أنها تمثل احتمالية تمرد يخيف سلطة دين أو سلطة المجتمع أو حتى جماعة ما يمثلها رجل أيضآ؟
صوتي، "العورة" أيضاً، ما زال يحمل تلك النبرة الخائفة المترددة التي ما زالت تظهر في مواقف غير متوقعة.
وجودي في مكان عام كان رحلة صراع مرهقة، فرغم طقوس الحذر قد ينتهي الأمر برجل الهيئة أو حتى رجل ما لا يحمل أية صفة حكومية بأن يغضب من نظرة أو حركة غير مقصودة أو ضحكة خافتة أو جزء يتمايل من قماش عباءتي السوداء. لذا وحفاظا على سلامتي ووجودي في الفضاء العام كان لا بد من الاختفاء والتلاشي صوتاً وصورة.
كان انفصالي عن جسدي ضرورة للبقاء والحفاظ على هويتي. فلم أستطع أن أحمل عبء جسد لا أستطيع أن أتحدث عنه، جسدٍ لا أعيش فيه ولا أستطيع التعبير به بحرية، جسد أعرف أنه خُصص منذ تلك اللحظة التي بدأت بتغطيته ليكون ملكاً لرجل لا أعرفه ولا أحبه ليستخدمه في ما يريد.
لم تكن العباءة مجرد رمز ديني، بل عبء حرص الجميع على أن أحمله أنا وكل نساء جيلي وأن نحمل معه شرف الأسرة والقبيلة والدين، مهمة السيطرة على نزوات أي رجل قد أصادفه في طريقي.
فضلت حينها أن أتعامل مع جسدي ككائن آخر لا أنتمي له، و لا ينتمي لي، ولكنه يرافقني كظلي أينما ذهبت.
تغير شكل العباءة كثيراً من ذلك الحين ويبدو أن محاولات التمرد على طريقة ارتدائها قد جعلت العباءة ذاتها وسيلة للتعبير بعد أن كانت قيداً آخر.
عندما زرت مدينتي بعد السنوات الثلاث من التغييرات السريعة التي مرت بها المملكة، كان المشهد مختلفاً، ما زالت العباءة السوداء شائعة لكنها لم تعد ذلك الرداء الموحد المثقل بتلك القيود و أجواء الترقب: الألوان، والمكياج، والطرق المختلفة لارتدائها، وإظهار الوجه، واللون الأسود الذي بدأ بالتلاشي، حركة الفتيات التي أصبحت أكثر حيوية و أقل أرتباكاً، ألوان الأظافر وإكسسورات اليدين الظاهرة، أصوات الضحكات العالية، الرقصات في الأماكن العامة أحياناً، الأجساد التي تمشي وتتقارب دون خوف، كان مشهداً يقترب من الطبيعة الإنسانية أكثر. حتى بوجود عباءة سوداء مازالت تحاول السيطرة على المشهد.
COMMENTS