تُعد هيئات المحلفين إحدى أقدم المؤسسات القانونية في بريطانيا، ويعود ظهورها بشكلها الأولي إلى القرن الثاني عشر خلال عهد الملك «هنري الثاني»، الذي أراد آنذاك تطوير نظام قضائي يحدّ من نفوذ القضاة الملكيين ويمنح المواطنين دورًا مباشرًا في محاكمة المتهمين.
وعلى مدى القرون التالية، تطوّر هذا النظام ليصبح حجر الزاوية في العدالة الجنائية البريطانية، بل وواحدًا من أبرز الرموز التي تفاخر بها منظومة القانون العام (Common Law) حول العالم.
وقد ارتبطت فكرة هيئة المحلفين في الوعي العام بكونها ضمانة أساسية ضد التعسف القضائي، إذ تمنح المواطنين – وليس فقط القضاة – سلطة تحديد مصير المتهمين. كما أسهمت تاريخيًا في تعزيز مبدأ “محاكمة الأنداد”، أي أن يُحاكم الفرد أمام مجموعة من أفراد المجتمع ذاته، بما يحقق قدرًا أوسع من الحياد والاستقلال.
لكن رغم هذا الإرث الطويل، لم تكن هيئات المحلفين بمنأى عن الانتقادات. فخلال القرن العشرين، شهدت بريطانيا تراجعًا تدريجيًا في نطاق استخدامها داخل المحاكم المدنية، وتساؤلات متزايدة حول كفاءتها في القضايا المعقدة، وتكلفتها المالية الكبيرة، ومدى ملاءمتها لعصر يعتمد على السرعة والدقة، خصوصًا مع تضخم أعداد القضايا الجنائية في العقود الأخيرة.
وفي ظل هذا الإرث العريق من جهة، والضغوط الحديثة على منظومة العدالة من جهة أخرى، يعود النقاش اليوم بقوة حول ما إذا كانت هيئات المحلفين ستظل رمزًا ثابتًا للعدالة البريطانية، أم أنها تقترب من مرحلة جديدة تحدّ فيها الدولة من دورها لصالح نماذج أكثر سرعة ومرونة.
تشهد المملكة المتحدة نقاشًا واسعًا حول مستقبل المحاكمات أمام هيئات المحلفين، بعد أن كشف وزير العدل «ديفيد لامي» عن دراسة حكومية قد تؤدي إلى تقليص استخدام هذا النظام التاريخي ليقتصر على أخطر الجرائم فقط، مثل الاغتصاب والقتل والقتل غير العمد.
وقال لامي في تصريحات له إن “المواطنين في المملكة المتحدة لا يملكون حقًا مكتسبًا في المحاكمات أمام هيئة محلفين”، مؤكدًا أن الحكومة تبحث خيارات “لجعل منظومة العدالة أكثر سرعة وفعالية”، في ظل تراكم غير مسبوق في القضايا المعروضة على المحاكم.
هذه الخطوة المحتملة، ورغم أنها قد تخفف الضغط الشديد على النظام القضائي، أثارت جدلاً واسعًا لدى من يعتبرونها “مساسًا بجوهر العدالة” في البلاد.
ما هي هيئة المحلفين وكيف تعمل؟
تتشكل هيئة المحلفين في محاكم التاج من 12 شخصًا يتم اختيارهم عشوائيًا من سجل الناخبين، ويستمر عملهم عادة لمدة تصل إلى عشرة أيام عمل. ويكلف هؤلاء المواطنون باتخاذ قرار الإدانة أو البراءة في القضايا التي تُعرض أمام المحكمة، ويُفضل أن يكون القرار بالإجماع، رغم إمكانية قبول القاضي بأغلبية واضحة.
لا يحصل أعضاء هيئة المحلفين على رواتب، إلا أن الدولة تغطي خسائر الدخل والنفقات. وخلال سير القضية، يُمنع على الأعضاء مناقشة تفاصيلها خارج المحكمة أو متابعة الأخبار المتعلقة بها أو إجراء أي بحث مستقل.
ويُستدعى عادة ما بين 15 و20 مواطنًا لكل قضية، ويتم اختيار هيئة المحلفين من بينهم، بينما يُعاد الآخرون إلى منازلهم. ويمكن تأجيل المشاركة لمرة واحدة فقط عند وجود ظروف قهرية، كما يُعفى منها من خدم خلال العامين السابقين أو يعاني من مرض أو كان والدًا جديدًا.
هل ستُلغى هيئات المحلفين بالكامل؟
بحسب صحيفة ذا تايمز، أرسل لامي مذكرة داخلية إلى الوزراء وكبار موظفي الخدمة المدنية يقترح فيها قصر المحاكمات أمام هيئة محلفين على الجرائم الكبرى، بينما تُحال الجرائم الأقل خطورة إلى قاضٍ منفرد.
وقال المتحدث الرسمي باسم رئيس الوزراء إن “المحاكمات أمام هيئة المحلفين ستظل ركنًا أساسيًا في منظومة العدالة بالنسبة لأخطر القضايا”، مضيفًا أنه “لم تُتخذ أي قرارات نهائية بعد”.
ورفض المتحدث الإفصاح عن موقف الحكومة تجاه حصر المحاكمات أمام هيئة محلفين في قضايا الاغتصاب والقتل فقط، مؤكدًا أن الأمر لا يزال في مرحلة الدراسة.
لماذا تدرس الحكومة هذا التغيير؟
تعاني محاكم التاج من تراكم ضخم يبلغ نحو 78,000 قضية وفقًا لوزارة العدل، وهو رقم قياسي أدى إلى تأخير كبير في الفصل في القضايا، حيث قال لامي إن “الضحايا يواجهون أوقات انتظار غير مقبولة”.
وتأتي هذه التطورات بينما لم ترد الحكومة حتى الآن على التوصيات التي قدمها السير «براين ليفيسون» لإصلاح النظام القضائي وخفض التراكم القياسي للقضايا. ومن بين المقترحات المثيرة للجدل منح المتهمين خصمًا بنسبة 40% على العقوبة إذا اعترفوا بالذنب في أقرب فرصة.
رئيس جمعية القانون في إنجلترا وويلز، «مارك إيفانز»، وصف فكرة تقليص دور هيئات المحلفين بأنها “إجراء متطرف يتجاوز بكثير التوصيات الرسمية”، مؤكدًا أنه لا يوجد أي دليل فعلي على أن تحويل القضايا إلى قاضٍ منفرد سيقلل من التراكم، مشددًا على أن “مزيجًا من التمويل والتغييرات الهيكلية قد يحل المشكلة دون المساس بالنظام الأساسي للمحاكمات”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق