الاندبندنت حين وقف دوق كامبريدج الأمير ويليام في أحد الشوارع القريبة من "وستمينستر" قبل أيام يبيع مجلة للمارّة لم يكن مجرد وقوف غ...
الاندبندنت |
حين وقف دوق كامبريدج الأمير ويليام في أحد الشوارع القريبة من "وستمينستر" قبل أيام يبيع مجلة للمارّة لم يكن مجرد وقوف غير معتاد لفرد من أفراد العائلة المالكة في بريطانيا. كما أن المجلة ليست كغيرها من المجلات.
كان وقوفاً من أجل غاية تعكسها طبيعة المجلة التي ما زالت تحلق في فضاء خاص بها.
فضاء مجلة "ذو بيغ إيشيو"، أو "القضية الكبيرة" هو أحد موضوعات بريطانيا الكبيرة التي تعاني منذ سنوات مزاحمة موضوعات ومعضلات كبرى لها، حتى تقلص اهتمام الكثيرين بها، وخفت خفوتاً وضع ما يزيد على 282 ألف أسرة مشردة، أو مهددة بالتشرد في مزيد من الخطر.
بلا مأوى و"ويليام" في الشارع
خطورة ملف التشرد - أو الأفراد والعائلات بلا مأوى - الذين ينامون في العراء في بريطانيا لم تعد مجرد أفراد وعائلات دفعتهم ظروف اقتصادية واجتماعية للنوم في العراء فقط. كما لم تعد تنحصر في تصاعد أعداد من يموتون في العراء نتيجة مرضهم أو ظروف إقامتهم الصعبة ليصلوا إلى 597 شخصاً في عام 2017، بعد أن كانوا 482 في عام 2013، وبينهم نسبة كبيرة ماتوا منتحرين.
ولا في كون "مكتب الإحصاء الوطني" الذي وصف ملف المشردين ومن يموتون في العراء بأنه "مأساة وطنية" في عام 2018، توقف عن الاهتمام المستمر بمآسي المشردين بسبب تواتر أحداث كبرى عالمية ومحلية في بريطانيا. كل ذلك لا يعني أن "المأساة" لم تعد موجودة.
وجود الأمير ويليام في الشارع حاملاً مجلة "ذو بيغ إيشيو" يعيد "الموضوع الكبير" إلى الواجهة.
فالمشردون في بريطانيا لم يختفوا، لكنهم تواروا عن الاهتمام بسبب ضغوط اقتصادية عارمة ومفاجأة وباء صادمة، ثم حرب روسية في أوكرانيا أتت على ما تبقى من اهتمام شعبي وجهد رسمي، إلى حين تغير الأوضاع أو حتى إشعار آخر.
الوباء وبدايات وخيمة
ظن البريطانيون أن آخر مأساة يمكن أن تحط على مشرديها هي وباء يلمّ بالكوكب. وحين تأكد توثيق "كوفيد-19" باعتباره وباءً، ظل البعض على سابق عهده بالاهتمام بهذا الملف الحيوي.
مؤسسات خيرية وأهلية عدة أبدت قلقها وأصدرت تحذيراتها في بداية الوباء من أن التأثيرات الكاملة لـ"كوفيد-19" ستكون وخيمة، ولن يعلم أحد مداها إلا بعد انتهاء الوباء، إن انتهى.
وانتهى الوباء، أو هكذا أعلنت بريطانيا، واتضح أن آثار الوباء الاقتصادية كانت أشد فتكاً بالجميع من تأثير الوباء نفسه، وهو ما انعكس بشكل مضاعف على جموع المشردين والمشردات، ولكن دون صخب.
ليس هذا فقط، بل تركت الآثار الاقتصادية الوخيمة للوباء والإغلاقات والإجراءات الاحترازية المزيد من الأفراد والأسر عُرضةً لخطر فقدان البيوت التي يسكنون فيها والتشرد.
وتقول الأرقام الرسمية، إن الإنفاق الرسمي على ملف المشردين انخفض بشدة قبل حلول الوباء، فمثلاً أنفقت السلطات المحلية البريطانية نحو 2.9 مليار جنيه استرليني على ملف المشردين في عام 2008-2009، وانخفض المبلغ إلى 0.7 مليار جنيه استرليني في عام 2018-2019.
وتوقعت "كرايسيس" أن يرتفع عدد المشردين إلى 660 ألفاً مع حلول عام 2024، إضافة إلى نحو 8 آلاف شخص ينامون في ظروف قاسية و9 آلاف شخص في إقامة مؤقتة غير مناسبة.
"الكل مشمول"
يشار إلى أن مبادرة "الكل مشمول" التي شنّتها بريطانيا في خضم الوباء حازت قبولاً وإشادة واسعي النطاق، لا سيما حين انتقلت بالفعل أعداد كبيرة ممن هم بلا مأوى للإقامة في فنادق أثناء أشهر الوباء الأصعب، لكن بـ"انتهاء" الوباء، انتهت الإجراءات الطارئة، ويجد المشردون أنفسهم في مواجهة مع الواقع الآخذ في التأزم، إن لم يكن تحت وطأة الآثار الاقتصادية لـ"كوفيد-19"، فجرّاء الوقع الاقتصادي المذري لحرب روسيا في أوكرانيا.
يشار إلى أن المهاجرين غير الشرعيين يمثلون نسبة غير محددة من تعداد الأشخاص بلا مأوى. وعلى الرغم من معرفة الجميع بذلك، فإن جمعيات عدة سلطت الضوء على ملف المهاجرين بلا مأوى في عام 2018 حين توفي مهاجر هنغاري عمره 43 عاماً متأثراً بجرعات زائدة من المخدرات والمواد الكحولية في محطة "تشارينغ كروس" وسط بريطانيا.
وتشير منظمة "كرايسيس" إلى أن المهاجرين بلا مأوى لا يواجهون فقط الأخطار نفسها التي يواجهها الأفراد والأسر المشردون في شوارع بريطانيا، ولكن يواجهون نظرات ومشاعر الشك وربما عدم الترحيب والعداء. كما يتم استبعادهم من أغلب خدمات الدعم المقدمة لغيرهم من البريطانيين.
وتشير "كرايسيس" إلى أن ما وصفته بـ"الأجندة السياسية الأخيرة العامدة إلى خلق بيئة معادية للمهاجرين غير الشرعيين"، يفاقم حجم المعاناة التي يعانيها المشردون منهم.
مشردون ومهاجرون
يشار إلى أن الغالبية العظمى من المهاجرين المشردين هم أشخاص قدموا إلى بريطانيا من منطقة الاتحاد الأوروبي وطالبو لجوء ولاجئون ومهاجرون غير شرعيين، ومهاجرون حصلوا على إذن البقاء شرط عدم الحصول على أموال ومساعدات حكومية.
وحال المشردين البريطانيين ليس أفضل كثيراً من أقرانهم غير البريطانيين. قبل أيام قليلة، كشفت الصحافة البريطانية عن سبب وفاة مشرد في مدينة "هل" البريطانية بعد أن رفض الانتقال إلى مأوى اشترط عدم اصطحابه لكلبه، رفيق دربه، فآثر البقاء مع كلبه في الشارع. واتضح أن سبب الوفاة تسمم ناجم عن تعاطي الهيروين.
أسباب ونتائج
وعلى الرغم من أن مُعاقرة المواد المخدرة والكحوليات كثيراً ما تنجم عن العيش في الشارع، إلا أنها أحياناً تكون سبباً له أيضاً.
وأبرز العوامل التي أدت إلى وجود ظاهرة للتشرد في بريطانيا تتراوح بين أسباب اجتماعية وأخرى اقتصادية، وكلاهما وثيق الصلة بالآخر. الفقر والبطالة والعنف وسوء المعاملة من قبل أحد أفراد الأسرة أو الشريك وانتهاء فترة عقوبة في السجن والاختلالات النفسية والعقلية، أبرز العوامل التي تدفع إلى التشرد.
الانتقال عبر الكنبات
المثير للاهتمام أن أعداد المشردين التي تُعلم بين الوقت والآخر لا تحتوي التشرد المموه أو المختبئ وأبرزه ما يعرف بـ"التنقل عبر الأرائك أو الكنبات" أو Sofa surfing، حيث يعيش أشخاص لأشهر أو سنوات متنقلين بين أرائك الأهل والأصدقاء بصفة مؤقتة تتحول إلى مستمرة.
استمرار اهتمام أفراد من العائلة المالكة في بريطانيا بقضية المشردين كان قد خفت بعد رحيل أميرة ويلز الأمير ديانا في عام 1997، لكن وقوف ابنها الأكبر ويليام قبل أيام في شارع "روشستر رو" في منطقة "وستمينستر" مرتدياً قبعة مجلة "ذو بيغ إيشيو" وشارتها وسترتها الحمراء المعروفة للملايين من ركاب مترو أنفاق لندن الشهير، وهو يحاول إقناع المارة بشراء المجلة، أعاد كرة المشردين إلى الملعب الملكي البريطاني.
وكان مركز "ذو باسادج" (الممر)، وهو أحد أكبر مراكز الموارد المخصصة للمشردين والمقيمين في مساكن غير آمنة في بريطانيا، أعلن ويليام "الراعي الملكي" له في عام 2019. كما زار ويليام المركز مع والدته الراحلة وهو طفل في عام 1993، وكثيراً ما تحدث عن هذه الزيارة التي تركت أثراً كبيراً في نفسه تجاه العمل من أجل هذه الفئة من الأفراد والأسر في بريطانيا.
القضية الكبيرة
وتبقى مجلة "ذو بيغ إيشيو" (القضية الكبيرة) على رأس ما يميز بريطانيا في تعاملها مع ملف المشردين. فالمجلة أطلقها مؤسس سلسلة محلات "ذو بودي شوب" (المتخصصة في بيع منتجات التجميل والعناية بالبشرة) غوردون روديك واللورد جون بيرد في عام 1991، حيث يكتبها ويحررها صحافيون مهنيون، مخصصة من ألفها إلى يائها لقضايا لها علاقة بالمشردين. ولا يبيعها سوى مشردين ومشردات أو معرضين للتشرد في الشوارع، لا سيما في أوقات الذروة على مداخل ومخارج مترو الأنفاق في لندن.
المؤسسان فكّرا في أن الحل الوحيد لمساعدة المشردين والأشخاص الذين يقيمون في ظروف قاسية سواء، في الشارع أو في محال إقامة مؤقتة هي مساعدتهم ليساعدوا أنفسهم. البائعون (المشردون) يشترون الأعداد بأموالهم الخاصة، ثم يبيعونها متكفلين بالربح، وكذلك الخسارة.
توقعات صعبة
التوقعات التي تتكهن بارتفاع أسعار الطاقة بنسبة تفوق الـ40 في المئة هذا العام، تعني أن المزيد من الأفراد والأسر المنتمين إلى أصحاب الدخول المنخفضة وشديدة الانخفاض مرشحون للانضمام إلى تعداد المشردين. ربما يجد هؤلاء أنفسهم مضطرين لإنفاق أكثر من نصف دخولهم على سداد فواتير بيوتهم.
وعلى الرغم من إعلان الحكومة البريطانية تخصيص صندوق قيمته 316 مليون جنيه استرليني للمجالس المحلية في العام المالي الحالي بهدف حماية الأشخاص الأضعف من الوقوع في براثن التشرد، وإشادة المنظمات الأهلية بالخطوة، فإن هناك مطالبات عدة باتخاذ خطوات أكثر وأكبر وقايةً لكثيرين من خطر التشرد، لا سيما في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة الراهنة الناجمة عن حرب روسيا في أوكرانيا.
من جهتها، تؤكد الحكومة البريطانية أن تدخلاتها العاجلة حالت دون انضمام 450 ألف أسرة لقطاع المشردين منذ عام 2017.
تغيرت المجلة والعوامل باقية
من جهة أخرى، احتفلت "ذو بيغ إيشيو" بعيد ميلادها الثلاثين في سبتمبر (أيلول) الماضي. واحتفت هيئة تحرير المجلة وعدد من المنظمات العاملة في مجال مساعدة المشردين بالمناسبة وممثلين عن الفئة المستهدفة بالمجلة.
وتم استعراض التغيرات الكثيرة التي طرأت عليها، وذلك نتيجة التغيرات التي طرأت على ملف التشرد، لكن بقي شيء واحد عصي على التغيير، ألا وهو العوامل التي تؤدي إلى التشرد.
COMMENTS